خاص - شبكة قُدس: كانت الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي من أهم العوامل التي تمنح صاحبها وضعا اجتماعيا وسياسيا متقدما، وظل الحال كذلك منذ بداية تأسيس كيان الاحتلال وحتى عام 1973، فقد ساهمت الإخفاقات التي مني بها الجيش على نظرة "الإسرائيليين" له وبالتالي تضررت المكانة الاجتماعية والسياسية التي كان أهم معاييرها الخدمة العسكرية. ولم يعد الضباط يخرجون من الخدمة كأبطال، وإنما كأشخاص فشلوا في تحقيق الإنجازات، وقد أثر ذلك تركيبة الحكومات لدى الاحتلال بدءا من عام 1978 الذي يوصف بأنه عام الانقلاب الكبير في تاريخ السياسة الإسرائيلية.
دفع الانزياح المتزايد للجمهور الإسرائيلي وخاصة الأشكناز عن الجيش، المستويات القيادية الإسرائيلية في مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى تحفيز شرائح أخرى لملء الفراغ. فمثلا رأى اليهود الشرقيون في الفراغ الذي تركه اليهود الغربيون فرصة لزيادة حجم تأثيرهم في الجيش، أما المهاجرون الجدد والنساء فكانوا يرون أن الخدمة العسكرية تحقق لهم الذات في صراعهم للاندماج والتأثير والمساواة.
وبالتزامن مع تنامي تأثير القيم الليبرالية وزيادة الاهتمام بالتكنولوجيا في المجالين العسكري والمدني، خلال تسعينيات القرن الماضي، وقعت "إسرائيل" "اتفاقية سلام" مع الأردن ومنظمة التحرير، وكان قد سبقها توقيع "اتفاقية سلام" مع مصر، وقد كان لهذه الاتفاقيات تأثير على تأثير الجنرالات في الحالة السياسية الإسرائيلية، وأصبح الأمن مهمة الدبلوماسي بدل الجنرال. وفي الحقيقة، أفقد توقيع هذه الاتفاقيات؛ من بينها اتفاقيات أوسلو، الجيش مكانته المركزية، وأسقطت شيئا فشيئا عن الجندي والضابط صفة "المحارب" التي كانت تمنحه قيمة اجتماعية وسياسية. كما أن الشعور بالتهديد الوجودي بدأ يتضاءل لدى معظم "الإسرائيليين" منذ استكمال احتلال الأراضي الفلسطينية عام 1967، وقد تعزز هذا الشعور بالأمان بما يعرف بـ"اتفاقيات السلام".
توقيع "اتفاقيات السلام" ساهم كذلك في تغير شكل التهديد، ولم تعدّ "إسرائيل" بحاجة إلى جيش كبير قادر على مواجهة عدة جيوش في عدة جبهات خاصة بعد "اتفاقية السلام" مع مصر والأردن، وهما من دول الطوق. شهدت فترة ما بعد أوسلو تهديدات من نوع جديد، تتمثل في العمليات التي تقوم بها الفصائل الفلسطينية، وهذا النوع يحتاج إلى عمل الوحدات الخاصة والاستخباراتية أكثر من حاجته إلى وحدات نظامية واحتياط لاحتلال مناطق واسعة، وهذا يعني أن الاهتمام الحقيقي تحوّل للضابط الفني أو التقني وليس للضابط المحارب صاحب الرؤى العسكرية للحروب والمعارك التقليدية.
ومع ذلك، لم يختف نهائيا تأثير الجنرالات في السياسة الإسرائيلية، فكان أرائيل شارون أحد أكثر الجنرالات شهرة في العسكرية الإسرائيلية من الذين قادوا حكومة الاحتلال في الانتفاضة الثانية التي رفعت شأن الجنرالات بعد عودة شعور التهديد الوجودي للمستوطنين، لكنه للمفارقة ختم حياته السياسية بانسحاب استراتيجي من قطاع غزة، أسس من وجهة نظر "الإسرائيليين" التهديد العسكري الذي أنشأته حركة حماس في القطاع، والذي أدى في النهاية إلى عملية طوفان الأقصى الفارقة في تاريخ القضية الفلسطينية.
ما بعد الطوفان
جاء طوفان الأقصى ليؤكد للإسرائيليين من جديد أن التهديد الوجودي لم ينته، وما زال قائما، وأن الدبلوماسية وعلاقات التطبيع مع الدول العربية لن تلغِ حقيقة وجود قضية فلسطينية يمكن لأصحابها أن يعيدوها للواجهة من جديد من خلال صوت المدافع. هذا الصوت، الذي كانت سياسة بنيامين نتنياهو على مدار 12 عاما قائمة على إخماده أو إسكاته عبر إدارة للصراع كانت إحدى أدواتها؛ الاقتصاد. لم يكن نتنياهو يسعى فقط إلى إسكات البندقية الفلسطينية فقط، وإنما إلى زيادة الاغتراب بين الضابط العسكري والجمهور "الإسرائيلي" من خلال إفقاده دوره، فقد ركز جلّ سياساته في السنوات الأخيرة على فكرة التطبيع الذي لا يمر من فلسطين من وجهة نظره، وهذا ما منح الدبلوماسي ورجل الاستخبارات قيمة مضاعفة في الدولة التي بحكم طبيعتها يجب بالضرورة أن تبقى حذرة في علاقاتها العسكرية المدنية.
وعلى عكس العقيدة العسكرية التي ترسخت في العقود الأخيرة والتي جعلت الضابط والجندي المقاتلين في أطراف الاهتمام لدى المستويات السياسية والعسكرية والجماهيرية، عزز الطوفان قيمتهما من جديد، وأعاد الثقافة "الإسرائيلية" العامة والعقيدة العسكرية إلى ما قبل احتلال عام 1967 وإلى ما بعد احتلال عام 1948. منحت طبيعة المعارك التي خاضها جيش الاحتلال في قطاع غزة وجنوب لبنان قيمة إضافية قياسية للجندي المحارب وخطة الحرب الكلاسيكية. وما سبق، بكل تأكيد يجعل صوت العسكري مسموعا، ثم مؤثرا، وبالتالي فإن الطوفان أعاد "الجندي المقاتل" إلى محور اهتمام الجمهور "الإسرائيلي".
يدرك الجنرالات الإسرائيليون هذا التحوّل الكبير والهزة العميقة التي أحدثتها معركة طوفان الأقصى، ومن هذا المنطلق فإنهم اعتبروا هذا الاهتمام المتزايد بقيمتهم فرصة للعودة للحياة السياسية "الإسرائيلية" وقيادة الجمهور "الإسرائيلي" من خلال مخاوفه. إن أي إنجاز للجيش يتحقق في المعارك الدائرة اليوم، هو عامل مساعد لهؤلاء الجنرالات للتأكيد على قيمتهم المفقودة في الحياة والثقافة الإسرائيلية، وهذا كله لا يصب في صالح بنيامين نتنياهو والنخبة المهنية "الإسرائيلية" التي لا تمتلك تاريخا عسكريا حقيقيا.
هذا التحوّل الذي أحدثته معركة طوفان الأقصى، سوف يعيد إنتاج نفسه على شكل صراع محتدم بين تيارين؛ الحاكم والمترسخ في المؤسسة الرسمية والذي بنى نفسه على مدار العقود الماضية بقيادة نتنياهو، والذي حاول قدر الإمكان تحييد الضابط العسكري عن الحياة السياسية بل والاستثمار قدر الإمكان في الإنجازات التكتيكية التي يحققها في بعض المراحل، والتيار الذي شددت معركة طوفان الأقصى على أهميته؛ الجنرالات، وهؤلاء يحاولون باستماتة التقاط الفرصة التاريخية، وما بين سعي التيارين فإن الاستقطاب داخل الجمهور "الإسرائيلي" سوف يزداد حدة خلال الحرب وبعدها.
وقد لا يكون الوقت مناسب كفاية بالنسبة للعسكريين لخوض الصراع مع التيار المهني، بسبب ظروف الحرب وما تفرضه من مسؤوليات "أخلاقية" وسياسية، لكنهم بدأوا يؤسسون بشكل فعلي لنهاية تيار "نتنياهو"، والمقصود بالأخير ليس تيار شخص أو حزب أو توجه سياسي أو أيديولوجي، وإنما حالة سياسية عامة. وبالمناسبة، فإن عدم اهتمام نتنياهو بإجراء صفقة تبادل للأسرى يعزز أوراق الجنرالات لدى الجمهور "الإسرائيلي" من مدخل عدم اكتراث نتنياهو تياره باستعادة العسكريين "الإسرائيليين" وعدم منحهم وحياتهم وعائلاتهم أهمية.
ويمكن الاستنتاج أن المكوّن العسكري الإسرائيلي سوف يمثل في فترة ما بعد الحرب، وخلال الحرب نسبيا، حركة جماهيرية اجتماعية وسياسية، تسعى أطراف عدة من "تيار نتنياهو" للاقتراب منها، وسيكون لهذه الحركة تأثير استراتيجي في مستقبل "إسرائيل" ومستقبل علاقاتها مع الفلسطينيين والعرب، وكذلك في مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة التي بدأت تميل إلى النخب العسكرية على حساب النخب المهنية. هذه المتغيرات، ستغرق المشهد "الإسرائيلي" في استقطاب يؤدي إلى اشتباك داخلي كبير.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا